كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ووعد الله المتزوج من هؤلاء إن كان فقيرًا أن يغنيه الله، وإغناؤه تيسير الغنى إليه إن كان حرًا وتوسعة المال على مولاه إن كان عبدًا فلا عذر للولي ولا للمولى أن يرد خطبته في هذه الأحوال.
وإغناء الله إياهم توفيق ما يتعاطونه من أسباب الرزق التي اعتادوها مما يرتبط به سعيهم الخاص من مقارنة الأسباب العامة أو الخاصة التي تفيد سعيهم نجاحًا وتجارتهم رباحًا.
والمعنى: أن الله تكفل لهم أن يكفيهم مؤنة ما يزيده التزوج من نفقاتهم.
وصفة الله الواسع مشتقة من فعل وسِع باعتبار أنه وصف مجازي لأن الموصوف بالسعة هو إحسانه.
قال حجة الإسلام: والسعة تضاف مرة إلى العلم إذا اتسع وأحاط بالمعلومات الكثيرة، وتضاف مرة إلى الإحسان وبذل النعم، وكيفما قُدّر وعلى أي شيء نُزّل فالواسع المطلق هو الله تعالى لأنه إن نُظر إلى علمه فلا ساحل لبحر معلوماته وإن نُظر إلى إحسانه ونعمه فلا نهاية لمقدوراته. اهـ.
والذي يؤخذ من استقراء القرآن وصف الواسع المطلق إنما يراد به سعة الفضل والنعمة، ولذلك يقرن بوصف العلم ونحوه قال تعالى: {وإن يتفرقا يغن الله كلًّا من سَعته وكان الله واسعًا حكيمًا} [النساء: 130].
أما إذا ذكرت السعة بصيغة الفعل فيراد بها الإحاطة فيما تُميَّزُ به كقوله تعالى: {وسع ربنا كل شيء علمًا} [الأعراف: 89].
وذكر {عليم} بعد {واسع} إشارة إلى أنه يعطي فضله على مقتضى ما علمه من الحكمة في مقدار الإعطاء.
{وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ}.
أمِر كل من تعلق به الأمر بالإنكاح بأن يلازموا العفاف في مدة انتظارهم تيسير النكاح لهم بأنفسهم أو بإذن أوليائهم ومواليهم.
والسين والتاء للمبالغة في الفعل، أي وليعف الذين لا يجدون نكاحًا.
ووجه دلالته على المبالغة أنه في الأصل استعارة.
جعل طلب الفعل بمنزلة طلب السعي فيه ليدل على بذل الوسع.
ومعنى {لا يجدون نكاحًا} لا يجدون قدرة على النكاح ففيه حذف مضاف.
وقيل النكاح هنا اسم ما هو سبب تحصيل النكاح كاللباس واللحاف.
فالمراد المهر الذي يبذل للمرأة.
والإغناء هنا هو إغناؤهم بالزواج.
والفضل: زيادة العطاء.
{والذين يَبْتَغُونَ الكتاب مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم فكاتبوهم إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَءَاتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي ءاتاكم}.
لما ذُكر وعد الله مَن يزوج من العبيد الفقراء بالغنى وكان من وسائل غناه أن يذهب يكتسب بعمله وكان ذلك لا يستقل به العبد لأنه في خدمة سيده جعل الله للعبيد حقًا في الاكتساب لتحرير أنفسهم من الرق ويكون في ذلك غنى للعبد إن كان من ذوي الأزواج.
أمر الله السادة بإجابة من يبتغي الكتابة من عبيدهم تحقيقًا لمقصد الشريعة من بث الحرية في الأمة، ولمقصدها من إكثار النسل في الأمة، ولمقصدها من تزكية الأمة واستقامة دينها.
{والذين} مرفوع بالابتداء أو منصوب بفعل مضمر يفسره {فكاتبوهم} وهذا الثاني هو اختيار سيبويه والخليل.
ودخول الفاء في {فكاتبوهم} لتضمين الموصول معنى الشرطية كأنه قيل: إن ابتغى الكتاب ما ملكت أيمانكم فكاتبوهم، تأكيدًا لترتب الخير على تحقق مضمون صلة الموصول بأن يكون كترتب الشروط على الشرط.
والكتاب: مصدر كاتب إذا عاقد على تحصيل الحرية من الرق على قدر معين من المال يُدفع لسيد العبد منجمًا، أي موزعًا على مواقيت معينة، كانوا في الغالب يوقتونها بمطالع نجوم المنازل مثل الثريا فلذلك سموا توقيت دفعها نجمًا وسموا توزيعها تنجيمًا، ثم غلب ذلك في كل توقيت فيقال فيه: تنجيم.
وكذلك الديات والحمالات كانوا يجعلونها موزعة على مواقيت فيسمون ذلك تنجيمًا وكان تنجيم الدية في ثلاث سنين على السواء، قال زهير:
تُعَفّى الكلوم بالمئين فأصبحت ** يُنجِّمها من ليس فيها بمُجرم

وسموا ذلك كتابة لأن السيد وعبده كانا يسجلان عقد تنجيم عوض الحرية بصك يكتبه كاتب بينهما، فلما كان في الكتب حفظ لحق كليهما أطلق على ذلك التسجيل كتابة لأن ما يتضمنه هو عقد من جانبين، وإن كان الكاتب واحدًا والكتب واحدًا.
وفي حديث عبد الرحمن بن عوف: كاتبت أمية بن خلف كتابًا بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة.
ومعنى {إن علمتم فيهم خيرًا} إن ظننتم أنهم لا يبتغون بذلك إلا تحرير أنفسهم ولا يبتغون بذلك تمكنًا من الإباق، وذلك الخير بالقدرة على الاكتساب وبصفة الأمانة ولا يلزم أن يتحقق دوام ذلك لأنه إن عجز عن إكمال ما عليه رجع عبدًا كما كان.
وكانت الكتابة معروفة من عهد الجاهلية ولكنها كانت على خيار السيد فجاءت هذه الآية تأمر السادة بذلك إن رغبه العبد أو لحثه على ذلك على اختلاف بين الأئمة في محمل الأمر من قوله تعالى: {فكاتبوهم}.
فعن عمر بن الخطاب ومسروق وعمرو بن دينار وابن عباس والضحاك وعطاء وعكرمة والظاهرية أن الكتابة واجبة على السيد إذا علم خيرًا في عبده وقد وكله الله في ذلك إلى علمه ودينه، واختاره الطبري وهو الراجح لأنه يجمع بين مقصد الشريعة وبين حفظ حق السادة في أموالهم فإذا عرض العبد اشتراء نفسه من سيده وجب عليه إجابته.
وقد هم عمر بن الخطاب أن يضرب أنس بن مالك بالدرّة لما سأله سيرين عبدُه أن يكاتبه فأبى أنس.
وذهب الجمهور إلى حمل الأمر على الندب.
وقد ورد في السنة حديث كتابة بريرة مع سادتها وكيف أدت عنها عائشة أم المؤمنين مال الكتابة كله.
وذكر ابن عطية عن النقاش ومكي بن أبي طالب أن سبب نزول هذه الآية: أن غلامًا لحويطب بن عبد العزى أو لحاطب بن أبي بلتعة اسمه صبيح القبطي أو صُبْح سأل مولاه الكتابة فأبى عليه فأنزل الله هذه الآية فكاتبه مولاه.
وفي الكشاف أن عمر بن الخطاب كاتب عبدًا له يكنى أبا أمية وهو أول عبد كوتب في الإسلام.
والظاهر أن الخطاب في قوله: {وآتوهم من مال الله الذي ءاتاكم} موجه إلى سادة العبيد ليتناسق الخطابان وهو أمر للسادة بإعانة مكاتبيهم بالمال الذي أنعم الله به عليهم فيكون ذلك بالتخفيف عنهم من مقدار المال الذي وقع التكاتب عليه.
وكذلك قال مالك: يوضع عن المكاتب من آخر كتابته ما تسمح به نفس السيد.
وحدده بعض السلف بالربع وبعضهم بالثلث وبعضهم بالعشر.
وهذا التخفيف أطلق عليه لفظ الإيتاء وليس ثمة إيتاء ولكنه لما كان إسقاطًا لما وجب على المكاتب كان ذلك بمنزلة الإعطاء كما سمي إكمال المطلِّق قبل البناء لمطلقته جميعَ الصداق عفوًا في قوله تعالى: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} [البقرة: 237] في قول جماعة في محمل {الذي بيده عقدة النكاح} منهم الشافعي.
وقال بعض المفسرين: الخطاب في قوله: {وءاتوهم} للمسلمين.
أمرهم الله بإعانة المكاتبين.
والأمر محمول على الندب عند أكثر العلماء وحمله الشافعي على الوجوب.
وقال إسماعيل بن حماد القاضي: وجعل الشافعي الكتابة غير واجبة وجعل الأمر بالإعطاء للوجوب فجعل الأصل غير واجب والفرع واجبًا وهذا لا نظير له. اهـ.
وفيه نظر.
وإضافة المال إلى الله لأنه ميسر أسباب تحصيله.
وفيه إيماء إلى أن الإعطاء من ذلك المال شكر والإمساك جحد للنعمة قد يتعرض به الممسك لتسلب النعمة عنه.
والموصول في قوله: {الذي آتاكم} يجوز أن يكون وصفًا ل {مال الله} ويكون العائد محذوفًا تقديره: آتاكموه.
ويجوز أن يكون وصفًا لاسم الجلالة فيكون امتنانًا وحثًا على الامتثال بتذكير أنه ولي النعمة ويكون مفعول {ءاتاكم} محذوفًا للعموم، أي ءاتاكم على الامتثال بتذكير أنه ولي النعمة.
ويكون مفعول {ءاتاكم} محذوفًا للعموم، أي ءاتاكم نعمًا كثيرة كقوله: {وءاتاكم من كل ما سألتموه} [إبراهيم: 34].
وأحكام الكتابة وعجز المكاتَب عن أداء نجومه ورجوعه مملوكًا وموت المكاتب وميراث الكتابة وأداء أبناء المكاتب نجوم كتابته مبسوطة في كتب الفروع.
{وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
انتقال إلى تشريع من شؤون المعاملات بين الرجال والنساء التي لها أثر في الأنساب ومن شؤون حقوق الموالي والعبيد، وهذا الانتقال لمناسبة ما سبق من حكم الاكتساب المنجر من العبيد لمواليهم وهو الكتابة فانتقل إلى حكم البغاء.
والبغاء مصدر: باغت الجارية، إذا تعاطت الزنى بالأجر حرفة لها، فالبغاء الزنى بأجرة.
واشتقاق صيغة المفاعلة فيه للمبالغة والتكرير ولذلك لا يقال إلا: باغت الأمة.
ولا يقال: بغَتْ.
وهو مشتق من البَغي بمعنى الطلب كما قال عياض في المشارق لأن سيد الأَمَة بغى بها كسبًا.
وتسمى المرأة المحترفة به بَغيًا بوزن فعول بمعنى فاعل ولذلك لا تقترن به هاء التأنيث.
فأصل بَغيّ بغوي فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقُلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء.
وقد كان هذا البغاء مشروعًا في الشرائع السالفة فقد جاء في سفر التكوين في الإصحاح 38: فخلعت عنها ثياب ترملها وتغطت ببرقع وتلففت وجلست في مدخل عينائم التي على الطريق ثم قال فنظرها يهوذا وحسبها زانية لأنها كانت قد غطت وجهها فمال إليها على الطريق وقال: هاتي أدخل عليك.
فقالت: ماذا تعطيني؟ فقال: أرسل لك جدي معزى من الغنم.
ثم قال ودخل عليها فحبلت منه.
وقد كانت في المدينة إماء بغايا منهن ست إماء لعبد الله بن أُبَي بن سلول وهن: مُعاذة ومُسيكة وأمَيْمَةُ وَعمرَةُ وأرْوَى وقتيلة، وكان يُكرههن على البغاء بعد الإسلام.
قال ابن العربي: روى مالك عن الزهري أن رجلًا من أسرى قريش في يوم بدر قد جُعل عند عبد الله بن أبي وكان هذا الأسير يريد معاذة على نفسها وكانت تمتنع منه لأنها أسلمت وكان عبد الله بن أُبي يضربها على امتناعها منه رجاء أن تحمل منه أي من الأسير القرشي فيطلب فداء ولده، أي فداء رقه من ابن أُبَيّ.
ولعل هذا الأسير كان مؤسرًا له مال بمكة وكان الزاني بالأمة يفتدي ولده بمائة من الإبل يدفعها لسيد الأمة، وأنها شكته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية.
وقالوا إن عبد الله بن أُبَيّ كان قد أعد معاذة لإكرام ضيوفه فإذا نزل عليه ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الكرامة له.
فأقبلت معاذة إلى أبي بكر فشكت ذلك إليه فذكر أبو بكر ذلك للنبيء صلى الله عليه وسلم فأمر النبي أبا بكر بقبضها فصاح عبد الله بن أُبَيّ: مَنْ يعذِرنا من محمد يغلبنا على مماليكنا.
فأنزل الله هذه الآية، أي وذلك قبل أن يتظاهر عبد الله بن أُبَيّ بالإسلام.
وجميع هذه الآثار متظافرة على أن هذه الآية كان بها تحريم البغاء على المسلمين والمسلمات المالكات أمر أنفسهن.
وكان بمكة تسع بغايا شهيرات يجعلن على بيوتهن رايات مثل رايات البيطار ليعرفهن الرجال، وهن كما ذكر الواحدي: أم مهزول جارية السائب المخزومي، وأم غليظ جارية صفوان بن أمية، وحية القبطية جارية العاصي بن وائل، ومزنة جَارية مالك بن عميلة بن السباق، وجَلالة جارية سهيل بن عمرة، وأم سُويد جارية عمرو بن عثمان المخزومي، وشريفة جارية ربيعة بن أسود.